التسول بين الشارع والشبكات المنظمة: تحليل شامل للمشكلة وحلولها
يُعدّ التسول ظاهرة اجتماعية وإنسانية تتكرر في مدن وبلدان العالم، وتختلف أسبابها وأساليب مواجهتها من مجتمع لآخر. البعض يراها مسألة أمنية وقانونية تُعالج بالقوانين والضبوط، بينما يرى آخرون أنها نتيجة فشل اقتصادي واجتماعي تتطلّب حلولًا إنمائية وحماية اجتماعية. لتحقيق استجابة فعّالة لا بدّ من فهمٍ متكامِل للظاهرة: لماذا تحدث؟ من هم الفاعلون؟ ما علاقة التسول بالجريمة المنظمة واستغلال الأطفال؟ وما هي السياسات الأفضل — عقابية أم إصلاحية أم توليفة منهجية منهما؟ في هذا المقال نعرض عرضًا معمّقًا ومتوازنًا نجمع فيه بين الأدلة القانونية، الدراسات الدولية، والتجارب المحلية، مع توصيات عملية قابلة للتطبيق.
تعريف التسول وأنواعه
تعريف عام
التسول هو طلب المال أو المساعدة ماديًا أو عينيًا من الجمهور — في الشارع أو في الأماكن العامة — دون مقابل مشروع، بغرض الحصول على منفعة مباشرة. لكن المصطلح يغطي طيفًا واسعًا من الأفعال: من فرد فقير يلجأ إلى الشارع لطلب الصدقة إلى شبكات منظمة تستغل الأطفال وتقوم بجمع مبالغ كبيرة بتقنيات الإكره أو الخداع.
الأنواع الأساسية
-
التسول الفردي العفوي: شخص بالغ يطلب المساعدة بسبب فقر أو تشرد أو فقدان عمل.
-
التسول المزمن / المحترف: أشخاص يمتهنون التسول كوسيلة دخل منظمة — قد يكون لدى بعضهم سلوكيات أو ممارسات مهنية لإقناع المارة وإجبارهم على الإعطاء.
-
التسول الشبكي / التنظيمي: شبكات تستغل أطفالًا أو مجموعات من المتسولين وتحصّل الأموال مقابل إدارة وتنظيم أماكن التسول، وغالبًا تُحصّل نسبة.
-
استغلال الأطفال والتهريب: حالات تُجبر فيها أسر أو شبكات إجرامية أطفالًا على التسول أو تُخطف أطفالًا لهذا الغرض (شكل من أشكال الاتجار بالبشر).
-
التسول الإلكتروني أو الرقمي: استخدام منصات رقمية أو حسابات تظاهر بأنها حالة إنسانية من أجل التبرعات، وقد تكون احتيالية.
لماذا يحدث التسول؟
التسول ليس مجرد خيار فردي؛ غالبًا ما يكون نتيجة تراكم عوامل اقتصادية واجتماعية وسياسية. أبرز الأسباب:
1. الفقر والبطالة
الفقر المدقع وغياب فرص العمل من الأسباب المباشرة التي تدفع أفرادًا إلى الشارع لطلب العطف والمساعدة. العجز عن تأمين الحد الأدنى للمعيشة يُعدّ المحرّك الأساسي في كثير من الحالات.
2. التشرد وفقدان السكن
غياب مأوى آمن يدفع بعض الأشخاص للتواجد في الأماكن العامة وطلب المساعدة. كما أن الأشخاص المشردين يفتقرون لشبكات دعم اجتماعي فعّالة.
3. التفكك الأسري والإدمان
الحالات الأسرية المنهارة وإدمان المخدرات أو الكحول تجعل بعض أفراد الأسرة عاجزين عن الكسب المشروع، ما يدفعهم إلى التسول أو دفع أقربائهم لذلك.
4. استغلال الأطفال والعصابات المنظمة
وجود شبكات إجرامية تستغل الأطفال أو ضعاف الحال تعدّ من أخطر أبعاد التسول. تُظهر تقارير دولية وتدخلات إنسانية أن بعض حالات التسول مرتبطة بالاتجار بالبشر واستغلال الطفولة. (انظر قسم المصادر للتوثيق.)
5. قلة الحماية الاجتماعية والتأمين الاجتماعي
غياب برامج الحماية الاجتماعية الشاملة (دعم دخل، خدمات إعادة تأهيل، إسكان اجتماعي، فرص تدريب) يجعل الفقر المزمن حالة مستدامة تدفع للتسول.
6. ضعف التعليم والمهارات
نقص المهارات المطلوبة لسوق العمل أو نقص التعليم يزيد من احتمالية اللجوء لوسائل عشوائية للحصول على لقمة العيش.
الآثار الاجتماعية والاقتصادية والحقوقية للتسول
التأثير على المتسول وأسرته
-
المخاطر الصحية والنفسية: حياة الشارع تعرض المتسولين لمخاطر العنف، الأمراض، سوء التغذية، والإهمال الصحي.
-
انتهاك حقوق الأطفال: الأطفال الذين يتسولون يتعرّضون للحرمان التعليمي والسلوكي، وقد يُستغلّون جنسيًا أو يُعبّئون عنهم بشكل مُجرَّف.
-
فقدان الكرامة والوصم: يُحاط المتسول في كثير من المجتمعات بوصمة اجتماعية تؤثر على اندماجه لاحقًا.
التأثير على المجتمع
-
انطباع عام عن انعدام التنظيم: انتشار التسول بكثرة قد يؤثر سلبًا على صورة المدن ويُقوّض ثقة الزائرين والمستثمرين.
-
تكاليف على الخدمات العامة: البنى الصحية والإنقاذية قد تتحمّل أعباء إضافية نحو فئات متشردة أو مريضة.
-
المخاطر الأمنية: وجود شبكات منظمة قد يعني جرائم مرتبطة بالابتزاز والاتجار، ما يتطلب استجابة أمنية وقضائية.
الاعتبارات الحقوقية
من زاوية حقوق الإنسان يثير التسول أسئلة حساسة: إلى أي حدّ تُجرّم الفقر؟ هل العقوبات على التسول جنائية أم إدارية أم تهدف لإعادة التأهيل؟ جوهر الجدل أن استجابة أي دولة ينبغي أن توازن بين حماية الضعفاء والتصدّي للاستغلال الشبكي والاستجابة لحقوق الأطفال والكرامة الإنسانية. تقارير الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية توضح أن «تجريم الفقر» قد ينتهك حقوق الأشخاص المعرضين للتشرد ما لم تواكبها برامج حماية وإعادة دمج فعّالة. (docs.un.org)
الإطار القانوني: تجارب وتشريعات وطنية ودولية
التجربة السعودية (مثال تطبيقي)
أدخلت المملكة العربية السعودية «نظام مكافحة التسول» الذي يجرّم امتهان التسول أو التحريض عليه أو إدارة شبكات التسول، ويحدد عقوبات قد تصل للسجن والغرامة، مع إجراءات لإحالة متسولي الشوارع للجهات المختصة لتقديم الدعم الاجتماعي والتأهيلي. تهدف هذه القوانين إلى الحد من المظاهر المنظمة للتسول وحماية الفئات الضعيفة من الاستغلال. (راجع نص النظام لتفاصيل العقوبات والإجراءات). (بوابة الأنظمة)
تجارب وقوانين في دول عربية أخرى
-
في مصر يوجد قانون قديم لمكافحة التسول يعود إلى عقود مضت (مثال: قانون 49 لسنة 1933) ويُطبق مع اختلافات ميدانية. كما تقوم السلطات بحملات حجز ورقابة أحيانًا. (اليوم السابع)
-
الإمارات وغيرها لديها تشريعات ضد الغش بالتسول التجاري أو الشبكات المنظمة وتفرض إجراءات جنائية وإدارية.
المشهد الدولي ووجهات نظر مؤسسات حقوق الإنسان
توصي جهات أممية متعددة بـ«تفكيك» الممارسات العقابية الصارخة ضد المتسولين وبدلاً من ذلك توجيه الجهود نحو إزالة أسباب الفقر وبناء شبكات حماية اجتماعية. تقارير الأمم المتحدة أكدت أن قوانين «المشردين/التسول» في بعض البلدان تجرّم حالة الفقر وتؤدي لنتائج سلبية، مقترحة أن تُرفق أي إجراءات بمنظومات دعم وفِرَق حماية للأطفال. كما تدعو منظمات مثل «أمنستي» إلى تجنب حلولٍ عقابية تُعمّق معاناة الفئات المحتاجة. (Amnesty International)
استغلال الأطفال والاتجار بالبشر
أحد أخطر أوجه التسول هو استغلال الأطفال: أسر أو شبكات تُجبر القاصرين على التسول، أحيانًا بعنف أو عنفٍ نفسي، وتقتطع منهم ما يجمعونه. هذه الحالات تُصنّف في كثير من التشريعات كجريمة اتجار بالبشر أو استغلال قاصر، وتستلزم تدخلات حماية فورية: إنقاذ الأطفال، تقديم رعاية صحية وتعليمية، وملاحقة المسؤولين. UNICEF وبرامج حماية الطفولة تؤكد أن مناهضة استغلال الأطفال تتطلب نهجًا متعدد القطاعات: إنقاذ، حماية، إعادة تأهيل، وإدماج في التعليم. (UNICEF)
كيف تتعامل الدول والمنظمات مع ظاهرة التسول؟ (مقاربات سياسة عامة)
لا توجد وصفة واحدة تُناسب الجميع؛ لكن ثمة نماذج متكررة تعتمد مزيجًا من الإجراءات التالية:
1. التكامل بين الأمن والحماية
النهج الأفضل يجمع بين إجراء ضبطٍ أمني لبناء حالة سيطرة على الشبكات الإجرامية مع توفير برامج حماية اجتماعية للمتسولين الحقيقيين (سكن مؤقت، علاج، تدريب مهني).
2. تفكيك شبكات الاستغلال
التحقيق مع الوسطاء وإدارة الشبكات التي تستغل التسول وفرض عقوبات ضدها مع إجراءات لاستعادة الأموال وتقديم تعويضات.
3. برامج إعادة الإدماج الاجتماعي والاقتصادي
أنشطة تدريب، حسابات ادخار اجتماعي، منح بسيطة للبدء بمشاريع صغيرة، وتأمين الخدمات الصحية والنفسية.
4. منع التسول الطفلي وحمايته
برامج التوعية للأهالي، إلزامية التعليم، شبكات للإبلاغ عن استغلال الأطفال، ومراكز حماية متخصصة.
5. حملات توعية وتغيير سلوك المجتمع
توجيه الرسائل للمواطنين بخصوص عدم تشجيع التسول الذي تستغله الشبكات، وربط التبرع بالجهات الرسمية المعتمدة التي تضمن وصول الدعم للمحتاج الحقيقي.
6. التشريعات وإجراءات التنفيذ
إصدار قوانين تستهدف الفاعلين في الشبكات الإجرامية، مع مراعاة معايير حقوق الإنسان في التعامل مع الفقر والحرمان. من المهم أن تنص القوانين على تدابير إعادة تأهيل وعدم اقتصارها على الردع فقط. (بوابة الأنظمة)
نقد لمسارات المقاربة العقابية وحدودها
هناك نقد واسع للمقاربة التي تعتمد فقط على «القبض + العقاب» للمتسولين:
-
تجريم الفقر: يُساء فهم فاعل التسول على أنه مجرم بدلاً من كونه ضحية فقر، ما يُكرّس دائرة الانحراف والفقر. تقارير أممية ومحاكمات حقوقية حذّرت من نتائج إدانة الأشخاص بدون دعم بديل. (docs.un.org)
-
نتائج قصيرة الأمد: الحملة الأمنية قد تُبعد المتسولين مؤقتًا لكن لا تعالج الأسباب الجذرية فترجع الظاهرة.
-
استهداف الفئات الأكثر هشاشة: في بعض الحالات، يُساء توقيف كبار السن أو المرضى أو أصحاب الإعاقات، وهذا يقود إلى انتقادات حقوقية.
لذلك، يوصي كثير من الخبراء بسياسات متوازنة تُعنى أولًا بتقديم خيارات وبدائل اجتماعية حقيقية قبل أو مصاحبة لأي عقوبات.
دور المجتمع المدني والقطاع الخاص والمواطنين
المجتمع المدني
منظمات المجتمع المدني تلعب دورًا محورياً في:
-
تقديم دعم فوري (طعام، رعاية صحية، مأوى مؤقت).
-
فتح مراكز للتأهيل والتدريب.
-
مراقبة انتهاكات واستغلال الأطفال وإبلاغ الجهات المختصة.
-
التوعية والتثقيف وتقديم نموذج لبرامج مؤسسية للتكافل.
القطاع الخاص
المؤسسات التجارية يمكن أن تدعم برامج الإدماج عبر برامج توظيف مستهدفة، تمويل مشاريع صغيرة، أو دعم مراكز الحماية الاجتماعية.
المواطنين
مواطنو المدن بمنحهم المساعدات مباشرة قد يشجعون نشاطًا شبكيًا للاستفادة من الكرم العام. بدلاً من ذلك، يُنصح بالتبرع للجهات الرسمية أو المنظمات المعتمدة أو المساهمة في برامج تمكين طويلة الأمد.
مقترحات وتوصيات عملية
-
بناء شبكة حماية اجتماعية شاملة: دعم الدخل، الإسكان المؤقت، وسياسات تشغيل نشطة (تدريب وتوظيف).
-
مراكز متخصّصة للتدخل السريع وإعادة التأهيل: فرق متعددة التخصصات (اجتماعي، طبي، نفسي، قانوني).
-
حملات إعلامية واعية: توضيح الفرق بين المعونة المؤقتة والاستغلال، وحثّ على دعم المؤسسات المختصة.
-
قوانين تركز على تفكيك الشبكات: مع ضمان آليات للحماية وإعادة الدمج بدلاً من عقاب الفقراء فقط.
-
سياسات استهداف الطفل: منع التسول الطفلي عبر فرض تسجيل الأطفال في المدارس وتقديم الدعم للأسرة وتطبيق القوانين ضد المستغِلين.
-
التعاون متعدد القطاعات: حكومات، منظمات دولية (UNICEF، World Bank)، منظمات حقوقية، ومجتمع مدني. تقارير حديثة تؤكد على أهمية التعاون متعدد القطاعات لمكافحة التسول الحضري بفعالية. (Business Standard)
نماذج ناجحة
-
مبادرات الإسكان المؤقت وبرامج التأهيل: مدن طبّقت برامج لإعادة المتشردين إلى مراكز تدريبية ومشروعات تشغيل مؤقتة أدت لتراجع ملحوظ في المشهد العام.
-
مبادرات حماية الطفولة: برامج إدماج الأطفال في المدارس والإبلاغ المبكر عن حالات التسول أدت لحماية أطفال كثيرين من الانزلاق في شبكات الاستغلال. مؤسسات مثل UNICEF تدعم هذه البرامج. (UNICEF)
التسول ظاهرة متعددة الأبعاد — إنسانية، اقتصادية، أمنيّة وقانونية — ولا تُحَلّ باستراتيجية واحدة. أفضل نهج هو نهج تكاملي: يجمع بين ضبط الشبكات الإجرامية وملاحقتها، وبين توفير بدائل اجتماعية واقتصادية فعّالة للمتسولين الحقيقيين، وحماية الأطفال من الاستغلال، وتحسين شبكات الحماية الاجتماعية. كما يجب أن تحترم أي إجراءات متطلبات حقوق الإنسان وتحقّق كرامة الأفراد. إنّ استثمار الدولة والمجتمع في حلول طويلة الأمد هو السبيل الحقيقي لفكّ الحلقة بين الفقر والاستغلال والتشرد.
المصادر
-
نظام مكافحة التسول — المملكة العربية السعودية (قانوني/نص النظام). (بوابة الأنظمة)
-
تغطيات وأخبار عن قانون مكافحة التسول في السعودية (Arab News, SaudiPedia). (سعوديبيديا)
-
تقرير الأمم المتحدة (قضايا تجريم التشرد والتوصية بآليات حماية ودي فيسن): A/HRC/56/61/Add.3 — مناقشات حول تجريم التشرد والسياسات البديلة. (docs.un.org)
-
Amnesty International — ملاحظات حول تجريم التشرد وحقوق الإنسان. (Amnesty International)
-
UNICEF — برامج الحماية ضد استغلال الأطفال والاتجار، وتوصيات بشأن منع تسول الأطفال وإعادة تأهيلهم. (UNICEF)
-
World Bank / خبراء اقتصاديون — دعوات لتعاون متعدد القطاعات لمعالجة التسول الحضري واستراتيجيات مدن ذكية في مواجهة التسول. (Business Standard)
-
قانون مصر رقم 49 لسنة 1933 بشأن مكافحة التسول — توضيحات صحفية وقانونية. (اليوم السابع)
0 Comments: