تأثير الإعلام على المجتمع: كيف يشكل الأفكار والسلوكيات؟
يُعتبر الإعلام من أقوى الأدوات التي تُشكِّل وعي الإنسان وتوجّه سلوكه وتؤثر في قراراته اليومية. فهو المرآة التي تعكس الواقع، لكنه في الوقت نفسه يملك القدرة على إعادة تشكيل هذا الواقع من خلال الرسائل، والصور، والمضامين التي يقدمها للجمهور.
ومع تطور التكنولوجيا وتعدد وسائل الاتصال، لم يعد الإعلام مجرد وسيلة لإيصال الأخبار، بل أصبح لاعبًا رئيسيًا في صناعة الرأي العام، وتوجيه الاتجاهات الاجتماعية، وتشكيل المعتقدات والثقافات. في هذا المقال الشامل، نستعرض بالتفصيل تأثير الإعلام على المجتمع بمختلف جوانبه السياسية، الاجتماعية، الثقافية، والاقتصادية، مع توضيح الإيجابيات والسلبيات، مدعومًا بأمثلة ومصادر موثوقة عربية وأجنبية.
أولاً: مفهوم الإعلام وأهميته في الحياة الاجتماعية
ما هو الإعلام؟
الإعلام هو عملية نقل المعلومات والمعرفة والأخبار والأفكار من المرسل إلى المتلقي عبر وسائل مختلفة، مثل الصحف، الإذاعة، التلفزيون، والإنترنت. وهو نظام اتصالي متكامل يهدف إلى تكوين الرأي العام وإحداث تفاعل اجتماعي بين الأفراد والمؤسسات.
أهمية الإعلام في المجتمع
-
نشر المعرفة والتوعية: الإعلام هو المصدر الأساسي للمعلومات، حيث يُمكّن الأفراد من فهم ما يجري في العالم من أحداث سياسية أو اقتصادية أو علمية.
-
بناء الهوية الثقافية: يساهم الإعلام في نقل التراث واللغة والعادات، مما يعزز الانتماء الوطني.
-
تحقيق الرقابة الاجتماعية: من خلال كشف الفساد والانتهاكات، يقوم الإعلام بدور "السلطة الرابعة".
-
التأثير على السلوك الجمعي: فهو يُوجّه القيم الاجتماعية، سواء نحو الإيجابية (مثل التعاون) أو السلبية (مثل العنف).
يقول الباحث الأمريكي “مارشال ماكلوهان” (Marshall McLuhan): "الوسيلة هي الرسالة"، في إشارة إلى أن طريقة نقل المعلومة لا تقل أهمية عن المعلومة نفسها في تشكيل الوعي.
([McLuhan, 1964, Understanding Media: The Extensions of Man])
ثانياً: تطور وسائل الإعلام وتأثيرها المتزايد
شهد الإعلام خلال القرن العشرين والواحد والعشرين تحولات كبرى أثرت على المجتمعات بشكل غير مسبوق.
1. الإعلام التقليدي
يشمل الصحافة المطبوعة، والإذاعة، والتلفزيون، وقد كان له دور أساسي في توحيد الشعوب ونشر الثقافة الوطنية والتعليم.
2. الإعلام الحديث (الرقمي)
مع ظهور الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، تحوّل الإعلام إلى فضاء مفتوح لا مركزي، يمكن لأي شخص أن يصبح “صانع محتوى” أو “مؤثرًا”.
تشير تقارير منظمة "Statista" لعام 2024 إلى أن أكثر من 5 مليارات شخص يستخدمون الإنترنت يوميًا، وأن حوالي 4.8 مليار منهم نشطون على وسائل التواصل الاجتماعي.
3. الإعلام التفاعلي
اليوم أصبح الجمهور ليس فقط متلقٍّ للمعلومة، بل مشاركًا في إنتاجها ونشرها، مما غيّر ديناميكيات السلطة الإعلامية، وأحدث نقلة نوعية في العلاقات الاجتماعية والسياسية.
ثالثاً: التأثيرات الإيجابية للإعلام على المجتمع
الإعلام ليس أداة للتأثير السلبي فحسب، بل له وظائف بنّاءة إذا استُخدم بطريقة مسؤولة. من أبرز هذه التأثيرات:
1. نشر الوعي والثقافة العامة
الإعلام يُعدّ مدرسة مفتوحة للجميع، تُساهم في رفع مستوى التعليم والثقافة العامة، خصوصًا عبر البرامج التثقيفية، الوثائقيات، والمنصات التعليمية.
أكدت دراسة للأمم المتحدة (UNESCO, 2023) أن الإعلام التعليمي ساهم في زيادة نسب الوعي الصحي في الدول النامية بنسبة تتجاوز 35%.
2. تعزيز الانتماء والهوية الوطنية
البرامج التي تبرز الرموز الوطنية والتراث والتاريخ تساعد في تعزيز الشعور بالانتماء والفخر الوطني. كما يلعب الإعلام دورًا رئيسيًا في توطيد الوحدة الوطنية ومقاومة الأفكار المتطرفة.
3. الرقابة والمساءلة
يُعرف الإعلام بـ“السلطة الرابعة”، لأنه يمارس دورًا رقابيًا على السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية.
أمثلة:
-
تغطيات فضائح الفساد في العديد من الدول أدت إلى استقالات مسؤولين كبار.
-
البرامج الحوارية السياسية أصبحت منصات للمساءلة العلنية.
4. التنمية الاقتصادية
الإعلام التجاري والإعلانات يُحرّك عجلة الاقتصاد، ويُسهم في الترويج للمنتجات المحلية وجذب الاستثمارات.
5. نشر القيم الإنسانية
من خلال حملات إعلامية مؤثرة، ساهم الإعلام في تعزيز القيم العالمية مثل المساواة، حقوق الإنسان، حماية البيئة، ومكافحة العنف.
رابعاً: التأثيرات السلبية للإعلام على المجتمع
رغم الإيجابيات، فإن للإعلام تأثيرات سلبية عميقة قد تُهدد استقرار المجتمعات وقيمها:
1. نشر العنف والجريمة
تعرض الأفراد، خاصة الأطفال، لمشاهد العنف عبر الأفلام أو الألعاب الإلكترونية يؤدي إلى تطبيع السلوك العدواني.
وفقًا لدراسة في Journal of Communication (2022)، يتأثر سلوك الأطفال الذين يشاهدون محتوى عنيفًا بنسبة تزيد على 25% مقارنة بغيرهم.
2. تشويه القيم الاجتماعية
الإعلام التجاري يسوّق أحيانًا أنماط حياة مادية ومفرطة في الاستهلاك، مما يُضعف القيم التقليدية كالتكافل والاعتدال.
3. التضليل الإعلامي والأخبار الزائفة
في عصر الإنترنت، تنتشر الأخبار الكاذبة بسرعة مذهلة، مما يخلق ارتباكًا في الرأي العام.
ذكرت دراسة لمعهد "MIT" (2018) أن الأخبار الزائفة تنتشر أسرع من الأخبار الحقيقية بست مرات عبر تويتر.
4. التأثير على الهوية الثقافية
هيمنة الإعلام الغربي على المنصات العالمية جعلت الكثير من المجتمعات تواجه خطر ذوبان هويتها المحلية في ثقافات أجنبية.
وهذا ما أشار إليه المفكر العربي جورج طرابيشي عندما وصف الإعلام الحديث بأنه «سلاح ذو حدين: يفتح النوافذ على العالم لكنه قد يُفقدنا خصوصيتنا الثقافية».
5. الإدمان الإعلامي والعزلة الاجتماعية
إدمان استخدام الإنترنت ووسائل التواصل أدى إلى تفكك العلاقات الأسرية والاجتماعية، خاصة بين فئة الشباب.
دراسة جامعة ستانفورد (Stanford, 2021) تشير إلى أن المستخدمين الذين يقضون أكثر من 4 ساعات يوميًا على مواقع التواصل يعانون من زيادة بنسبة 30% في الشعور بالوحدة والاكتئاب.
خامساً: دور الإعلام في تشكيل الرأي العام
يُعتبر الإعلام أحد أهم أدوات تشكيل الرأي العام وصياغة الاتجاهات السياسية والاجتماعية.
تستخدم وسائل الإعلام تقنيات محددة للتأثير، منها:
-
الإطار الإعلامي (Framing):
طريقة تقديم الخبر تُغيّر كيفية تفسيره.
مثال: وصف تظاهرة بأنها “احتجاج سلمي” أو “اضطرابات” يولد تصورين مختلفين تمامًا. -
جدولة الأولويات (Agenda Setting):
الإعلام لا يُخبر الناس بما يفكرون به، بل بما يجب أن يفكروا فيه.
أي أن تكرار موضوع ما يجعله يبدو أهم مما هو عليه فعلاً. -
نظرية الغرس الثقافي (Cultivation Theory):
قدمها الباحث "جورج جربنر"، وتفترض أن التعرّض المتكرر للمضامين الإعلامية يؤثر في تصور الناس للعالم، مثل تصور أن العنف أكثر شيوعًا مما هو في الواقع.
سادساً: تأثير الإعلام على فئات محددة في المجتمع
1. الشباب
الشباب هم الفئة الأكثر تفاعلًا مع الإعلام الرقمي، مما يجعلهم عرضة للمحتوى الإيجابي والسلبي على حد سواء.
-
الإيجابيات: توسيع الأفق المعرفي، اكتساب المهارات، فرص التعليم عن بُعد.
-
السلبيات: الإدمان الرقمي، المقارنات الاجتماعية، فقدان الخصوصية.
2. المرأة
الإعلام أسهم في تمكين المرأة وإبراز نجاحاتها، لكنه في الوقت نفسه أسهم في تكريس الصور النمطية أحيانًا.
وفقًا لتقرير هيئة الأمم المتحدة للمرأة (UN Women, 2023)، ما زالت النساء يشكّلن أقل من 30% من مصادر الأخبار عالميًا.
3. الأطفال
البرامج الكرتونية والألعاب الرقمية أصبحت تشكّل وعي الأطفال منذ سن مبكرة. لذلك، يجب على الأسر والمربين مراقبة المحتوى الذي يتعرضون له، وتشجيع الإعلام التربوي الآمن.
سابعاً: الإعلام والسياسة التأثير المتبادل
الإعلام والسياسة وجهان لعملة واحدة. الإعلام ينقل نشاط السياسيين، بينما يستخدمه الساسة لبناء الصورة العامة.
-
خلال الحملات الانتخابية، تلعب وسائل الإعلام دورًا حاسمًا في توجيه الناخبين.
-
كما يستخدم السياسيون وسائل التواصل الاجتماعي للتفاعل المباشر مع الجمهور (مثل تويتر وفيسبوك).
لكن في المقابل، قد يتحول الإعلام إلى أداة دعائية إذا غابت الاستقلالية، مما يهدد حرية التعبير والديمقراطية.
يشير تقرير “Freedom House 2024” إلى أن 47% من دول العالم تشهد قيودًا على حرية الإعلام.
ثامناً: الإعلام كعامل للتنمية الاجتماعية
عندما يُستخدم الإعلام بشكل أخلاقي ومسؤول، فإنه يصبح قوة دافعة للتنمية:
-
التنمية الاقتصادية: من خلال الترويج للمشروعات والمبادرات.
-
التنمية الصحية: حملات التوعية ضد الأمراض والأوبئة (كما حدث أثناء جائحة كورونا).
-
التنمية البيئية: نشر ثقافة الحفاظ على البيئة والتدوير.
-
التنمية التعليمية: الدروس الرقمية والمحتوى التفاعلي عزز فرص التعلم مدى الحياة.
وفقًا لتقرير البنك الدولي (2022)، ساهم الإعلام الرقمي في رفع معدلات التعليم الإلكتروني بنسبة 45% خلال فترة الجائحة.
تاسعاً: أخلاقيات الإعلام والمسؤولية الاجتماعية
لكي يؤدي الإعلام دوره البنّاء، يجب أن تحكمه مجموعة من القيم الأخلاقية والمهنية:
-
الصدق والدقة: التحقق من الأخبار قبل نشرها.
-
الحياد والموضوعية: تجنّب التحيز السياسي أو التجاري.
-
احترام الخصوصية: عدم انتهاك الحياة الشخصية للأفراد.
-
الشفافية والمساءلة: الاعتراف بالأخطاء عند وقوعها.
-
احترام القيم الثقافية والدينية للمجتمع.
هذه المبادئ وضعتها منظمات مثل اليونسكو والاتحاد الدولي للصحفيين (IFJ) لضمان ممارسة مهنية مسؤولة.
عاشراً: مستقبل الإعلام إلى أين؟
العالم يتجه نحو الإعلام الذكي (Smart Media) المعتمد على الذكاء الاصطناعي، وتحليل البيانات، والمحتوى المخصص حسب الاهتمامات.
لكن هذا التطور يطرح تساؤلات أخلاقية جديدة مثل:
-
هل ستفقد الصحافة دورها التقليدي لصالح الخوارزميات؟
-
من يتحكم في المعلومات؟
-
كيف يمكن الحفاظ على التنوع الإعلامي في عصر المنصات العملاقة؟
التحدي الأكبر في المستقبل هو تحقيق التوازن بين حرية الإعلام والمسؤولية المجتمعية، وضمان أن يظل الإعلام وسيلة للبناء لا للهدم.
الإعلام، بجميع وسائله، هو سلاح ذو حدين: يمكن أن يبني المجتمعات أو يهدمها.
عندما يُستخدم الإعلام بمهنية وأخلاقية، يصبح قوة للخير، يعزز الوعي، ويغرس القيم الإيجابية، ويساهم في التنمية الشاملة. أما إذا أسيء استخدامه، فإنه يتحول إلى أداة تضليل وتشويه وتفكيك اجتماعي.
إنّ بناء مجتمع واعٍ إعلاميًا يتطلب تربية إعلامية تبدأ من المدرسة، وتمرّ عبر الأسرة، وتنتهي عند مؤسسات الدولة. فالمواطن المثقف إعلاميًا هو القادر على التمييز بين الحقيقة والزيف، بين الإعلام البنّاء والإعلام الهدّام.
المصادر
موقع موضوع: تأثير الإعلام على المجتمع
-
جريدة الشرق الأوسط — مقال: "الإعلام والوعي الاجتماعي في العالم العربي"، العدد 16234.
-
مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني — دراسة: “الإعلام وتأثيره في القيم الشبابية” (2023).
-
الهيئة العامة للإعلام المرئي والمسموع – تقارير سنوية عن الإعلام السعودي والمجتمع.
McLuhan, M. (1964). Understanding Media: The Extensions of Man. MIT Press.
-
UNESCO (2023). Media Literacy and Information Society Report.
-
Freedom House (2024). Freedom of the Press Index.
-
Statista (2024). Global Digital Population Report.
-
MIT (2018). The spread of true and false news online. Science Journal.
-
Stanford University (2021). Social Media Use and Mental Health Study.
-
Journal of Communication (2022). Media Violence Effects on Behavior.
تأثير الإعلام على المجتمع، دور الإعلام، الإعلام الحديث، الإعلام التقليدي، الإعلام الرقمي، الإعلام والقيم الاجتماعية، وسائل التواصل الاجتماعي، الإعلام والتنمية، تأثير الإعلام على الشباب.
0 Comments: