العنف الأسري والعنف ضد الشريك (Domestic Violence / IPV): ظاهرة عالمية تهدد الإنسان والمجتمع

العنف الأسري والعنف ضد الشريك (Domestic Violence / IPV): ظاهرة عالمية تهدد الإنسان والمجتمع

العنف الأسري والعنف ضد الشريك (Domestic Violence / IPV): ظاهرة عالمية تهدد الإنسان والمجتمع

العنف ضد المرأة


يُعد العنف الأسري أو ما يُعرف بـ العنف ضد الشريك (Intimate Partner Violence – IPV) من أخطر الظواهر الاجتماعية التي تواجه العالم اليوم، إذ لا يقتصر تأثيره على الضحية فقط، بل يمتد إلى الأسرة بأكملها والمجتمع بمختلف مؤسساته.
يُمارس هذا النوع من العنف داخل الإطار المنزلي أو بين الشريكين في علاقة عاطفية أو زواج، ويتخذ أشكالًا متعددة: جسدية، نفسية، جنسية، واقتصادية.
ورغم التقدم التشريعي والحقوقي في العديد من الدول، لا يزال العنف الأسري ظاهرة عالمية واسعة الانتشار تمسّ ملايين النساء والرجال والأطفال كل عام.

في هذه المقالة الشاملة سنتناول:

  • تعريف العنف الأسري وأنواعه

  • حجم المشكلة على مستوى العالم

  • العوامل المسببة والمحفزة

  • الآثار الجسدية والنفسية والاجتماعية

  • الجهود الدولية والوطنية لمكافحته

  • التوصيات والحلول المستقبلية

ما هو العنف الأسري / العنف ضد الشريك؟

العنف الأسري هو أي سلوك عدواني أو مؤذٍ يرتكبه أحد أفراد الأسرة تجاه فرد آخر داخل المنزل، بهدف السيطرة أو الإيذاء الجسدي أو النفسي أو الجنسي أو المادي.
أما العنف ضد الشريك تحديدًا (IPV) فيُعرَّف بأنه أي شكل من أشكال الأذى الذي يُمارس ضد الزوج أو الزوجة أو الشريك الحميم، سواء في علاقة زواج رسمية أو غير رسمية.

أنواع العنف ضد الشريك

  1. العنف الجسدي:
    استخدام القوة لإيذاء الجسد مثل الضرب، الركل، الدفع، الخنق، أو استخدام أدوات حادة.

  2. العنف النفسي أو العاطفي:
    يشمل الإهانة، التهديد، العزلة، التقليل من الشأن، المراقبة، والتحكم في السلوك.

  3. العنف الجنسي:
    إجبار الشريك على ممارسة نشاط جنسي دون رضاه أو باستخدام التهديد أو الابتزاز.

  4. العنف الاقتصادي:
    السيطرة على المال، حرمان الضحية من العمل أو التعليم، التحكم في الموارد المعيشية.

  5. التحكم والسيطرة:
    استخدام وسائل غير مباشرة مثل الغيرة المفرطة، تتبع الهاتف، أو منع التواصل مع الآخرين.

انتشار العنف ضد الشريك حول العالم

العنف الأسري ليس حكرًا على ثقافة أو دولة معينة، بل هو ظاهرة عالمية موثقة في جميع القارات، وإن اختلفت معدلاتها تبعًا للعوامل الثقافية والاقتصادية والتشريعية.

الإحصاءات العالمية

  • وفقًا لتقرير منظمة الصحة العالمية (WHO) الصادر عام 2021، فإن نحو 30% من النساء حول العالم تعرّضن لشكل من أشكال العنف الجسدي أو الجنسي من قبل شريك حميم في مرحلة من حياتهن.

  • في بعض الدول المنخفضة الدخل، تصل النسبة إلى أكثر من 37% من النساء.

  • يُقدّر أن 38% من حالات قتل النساء عالميًا ناتجة عن عنف من الشريك أو الزوج.

  • تشير تقارير الأمم المتحدة (UN Women) إلى أن جائحة كوفيد-19 أدت إلى ارتفاع حالات العنف الأسري بنسبة تتراوح بين 25% إلى 50% في كثير من البلدان بسبب الحجر المنزلي والضغوط الاقتصادية.

مناطق العالم الأكثر تأثرًا

  • أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى: تسجل أعلى معدلات العنف ضد النساء تصل إلى 45%.

  • آسيا الجنوبية وجنوب شرق آسيا: نسب تتراوح بين 25% و37%.

  • أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية: نسب أقل (حوالي 20%) لكنها تظل مقلقة، خاصة في الفئات المهمشة.

العوامل المسببة والمحفزة للعنف الأسري

العنف الأسري لا يحدث في فراغ، بل يتأثر بعوامل معقدة تشمل الفرد، الأسرة، المجتمع، والثقافة.

أولًا: العوامل الفردية

  • التجارب السابقة: من شهد العنف في طفولته يكون أكثر عرضة لتكرار النمط في حياته الزوجية.

  • تعاطي الكحول والمخدرات: يرتبط بزيادة السلوك العدواني بنسبة 50% وفقًا لدراسة من Lancet Psychiatry.

  • الاضطرابات النفسية أو العصبية: كالاكتئاب، الغضب غير المنضبط، أو اضطراب الشخصية الحدية.

  • الاختلال في القوة بين الجنسين: سيطرة أحد الشريكين ماديًا أو اجتماعيًا.

ثانيًا: العوامل الأسرية والاجتماعية

  • الضغوط الاقتصادية: البطالة، الفقر، الديون، وأزمات المعيشة تزيد من التوترات الأسرية.

  • التنشئة الاجتماعية الذكورية: حيث يُربَّى الذكور على السيطرة، والنساء على الطاعة.

  • ضعف التواصل الأسري: غياب الحوار يؤدي إلى تراكم الغضب وتحوله إلى عنف.

  • قلة الدعم الاجتماعي: العزلة تجعل الضحايا غير قادرين على طلب المساعدة.

ثالثًا: العوامل الثقافية والقانونية

  • الأعراف المجتمعية: في بعض الثقافات يُعتبر "تأديب الزوجة" مقبولًا اجتماعيًا.

  • ضعف القوانين أو تطبيقها: في دول كثيرة لا توجد عقوبات رادعة كافية أو آليات للإبلاغ الآمن.

  • الخوف من الوصمة: يمنع العديد من الضحايا، خاصة النساء، من التبليغ عن المعتدين.

الآثار السلبية للعنف ضد الشريك

العنف الأسري لا يترك جروحًا مرئية فقط، بل يمتد إلى أعماق النفس ويؤثر في المجتمع ككل.

1. الآثار الصحية والجسدية

  • إصابات جسدية مثل الكدمات، الكسور، الحروق، والرضوض.

  • مضاعفات أثناء الحمل كالنزف، الولادة المبكرة، الإجهاض.

  • ارتفاع خطر الإصابة بالأمراض المزمنة مثل أمراض القلب والسكري نتيجة التوتر المستمر.

  • اضطرابات في الجهاز المناعي بسبب الضغط النفسي المزمن.

2. الآثار النفسية والعقلية

  • الاكتئاب والقلق واضطرابات النوم.

  • اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) الناتج عن العنف المتكرر.

  • انخفاض تقدير الذات، فقدان الثقة بالآخرين، الإدمان أحيانًا كوسيلة للهروب.

  • زيادة خطر التفكير بالانتحار بين النساء المعنفات بمقدار الضعف مقارنة بغيرهن.

3. الآثار الاجتماعية والاقتصادية

  • انخفاض الإنتاجية في العمل بسبب الغياب أو التوتر المستمر.

  • تراجع الأداء الدراسي للأطفال الذين يعيشون في أسر عنيفة.

  • ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية والاجتماعية للدولة.

  • تفكك الأسرة وارتفاع معدلات الطلاق أو الهروب من المنزل.

4. التأثير على الأطفال

الأطفال الذين يشهدون العنف الأسري يكونون أكثر عرضة لتكرار الأنماط العنيفة في المستقبل.
تُظهر دراسات أن الأطفال في هذه الأسر يعانون من:

  • ضعف التحصيل الدراسي.

  • اضطرابات السلوك مثل العدوانية أو الانسحاب الاجتماعي.

  • مشاكل في النوم والتبول اللاإرادي.

  • مخاطر أعلى للإصابة بالاكتئاب واضطرابات القلق عند البلوغ.

العنف ضد الرجال

رغم أن معظم الضحايا من النساء، إلا أن الرجال أيضًا قد يكونون ضحايا للعنف الأسري.
تُقدّر منظمة الصحة العالمية أن حوالي 10% من الرجال حول العالم تعرّضوا لشكل من أشكال العنف من شريكاتهم، لكن كثيرًا منهم لا يُبلّغون خوفًا من السخرية أو الشك في رجولتهم.
هذا يبرز الحاجة إلى مقاربة أكثر شمولية تأخذ في الاعتبار أن جميع الأفراد يستحقون الحماية بغض النظر عن الجنس.

الجهود الدولية لمكافحة العنف الأسري

1. الأمم المتحدة

  • أطلقت الأمم المتحدة برنامج "اتحدوا لإنهاء العنف ضد المرأة" (UNiTE) منذ عام 2008.

  • تبنّت الجمعية العامة للأمم المتحدة الإعلان بشأن القضاء على العنف ضد المرأة (1993) كإطار دولي ملزم أخلاقيًا.

  • تعمل هيئة الأمم المتحدة للمرأة (UN Women) على دعم التشريعات وتمكين الضحايا في أكثر من 90 دولة.

2. منظمة الصحة العالمية (WHO)

  • تعتبر العنف ضد الشريك قضية صحة عامة وليست مجرد مسألة اجتماعية.

  • تدعم الدول الأعضاء في تطوير أنظمة رعاية صحية قادرة على اكتشاف الضحايا وتقديم المساعدة النفسية والطبية.

  • أطلقت مبادرة RESPECT Women Framework التي تقدم إرشادات عملية للوقاية من العنف.

3. الاتحاد الأوروبي

  • اعتمد اتفاقية إسطنبول (Istanbul Convention) عام 2011 كأول معاهدة أوروبية ملزمة لمكافحة العنف ضد النساء والعنف الأسري.

  • تضم أكثر من 35 دولة موقّعة، وتُلزم الحكومات بتوفير مراكز إيواء وخطوط ساخنة واستجابة قانونية فعالة.

4. الجهود في العالم العربي

  • أصدرت عدة دول عربية قوانين خاصة بالعنف الأسري (في السعودية، الإمارات، الأردن، المغرب، تونس).

  • أطلقت جمعيات المجتمع المدني حملات توعوية وخطوط مساعدة للنساء.

  • بدأت بعض الدول بإدخال مفاهيم "العنف الأسري" و"العنف ضد الشريك" في المناهج التعليمية وبرامج التدريب المهني.

الوقاية والاستجابة: كيف يمكن الحد من الظاهرة؟

1. التوعية والتعليم

  • نشر الوعي في المدارس والجامعات حول العلاقات الصحية.

  • تدريب المعلمين والطلاب على كيفية التعرف على العلامات المبكرة للعنف.

  • استخدام وسائل الإعلام لنشر رسائل إيجابية حول المساواة والاحترام.

2. تمكين المرأة اقتصاديًا واجتماعيًا

  • ضمان فرص العمل والتعليم للنساء.

  • دعم المبادرات الريادية للنساء في المناطق الفقيرة.

  • تمكين النساء قانونيًا من امتلاك الممتلكات واتخاذ القرارات المالية.

3. تطوير التشريعات

  • وضع قوانين صارمة تُجرّم جميع أشكال العنف الأسري.

  • توفير إجراءات إبلاغ سرية وآمنة للضحايا.

  • إنشاء محاكم مختصة بالعنف الأسري لضمان سرعة العدالة.

4. الدعم النفسي والاجتماعي

  • إنشاء مراكز استشارات نفسية مجانية للضحايا.

  • توفير خطوط ساخنة على مدار الساعة.

  • دعم الجمعيات التي تقدم مأوى وخدمات قانونية واجتماعية.

5. إشراك الرجال والشباب

  • التوعية بدور الرجل كشريك داعم وليس متسلطًا.

  • تنظيم ورش عمل لتعليم مهارات التواصل اللاعنفي.

  • تشجيع الشباب على رفض الممارسات المسيئة والتحدث عنها.

التكنولوجيا ودورها في مكافحة العنف الأسري

في السنوات الأخيرة، ساهمت التكنولوجيا في الحد من العنف من خلال:

  • تطبيقات الإبلاغ الفوري التي تتيح للضحايا التواصل مع السلطات أو الملاجئ بسرية.

  • منصات الدعم النفسي الافتراضي التي توفر جلسات علاجية عبر الإنترنت.

  • استخدام الذكاء الاصطناعي لتحليل بيانات الشرطة والمستشفيات لرصد الاتجاهات ومناطق الخطر.

لكن في المقابل، ظهرت أشكال جديدة من العنف مثل العنف الإلكتروني عبر المراقبة الرقمية أو الابتزاز الإلكتروني.

العنف الأسري والعنف ضد الشريك ليسا قضايا محلية أو فردية، بل قضية إنسانية عالمية تتطلب تكاتف جميع الدول والمؤسسات والأفراد.
فالسكوت عن العنف يُبقي دائرة الألم مستمرة، بينما الوعي والتعليم والقانون يمكن أن يخلقوا عالمًا أكثر عدلاً وأمانًا.
إن بناء أسرة خالية من العنف هو الأساس لبناء مجتمع متماسك، صحي، ومزدهر، حيث يسود الاحترام والكرامة للجميع دون استثناء.

المصادر:

World Health Organization (2021). Violence against women prevalence estimates, 2018.

  1. UN Women (2022). The Shadow Pandemic: Violence Against Women during COVID-19.

  2. The Lancet Psychiatry (2020). Substance use and intimate partner violence: a global review.

  3. Council of Europe (2011). Istanbul Convention on preventing and combating violence against women and domestic violence.

  4. UNFPA (2023). Ending gender-based violence: global report.

  5. World Bank (2022). Economic costs of gender-based violence: Global perspectives.



الأحدث
المقال التالي

كُتب بواسطة:

0 Comments: