الأم بوابة الحب: تأثير ارتباط الطفل بأمه على اختياراته الزوجية وسلوكه العاطفي

الأم بوابة الحب: تأثير ارتباط الطفل بأمه على اختياراته الزوجية وسلوكه العاطفي


 الأم بوابة الحب: تأثير ارتباط الطفل بأمه على اختياراته الزوجية وسلوكه العاطفي

دور الام في علاقات الابناء العاطفية

تبدأ قصة الإنسان العاطفية قبل أن يختبر الحب أو العلاقات بسنوات طويلة، منذ لحظة ولادته بين ذراعي أمه. فالأم ليست فقط أول مصدر للأمان والغذاء، بل هي أيضًا النموذج الأول للحب، والمرآة التي يرى الطفل من خلالها العالم والعلاقات.
تشير دراسات علم النفس الحديث إلى أن نوع العلاقة التي تنشأ بين الطفل وأمه تحدد كيفية ارتباطه العاطفي لاحقًا بشريكه في الحياة، ومدى ثقته بالآخرين، وقدرته على الحب أو الخوف منه.

في هذا المقال سنتناول كيف يشكّل ارتباط الطفل بأمه أنماط التعلق العاطفي (Attachment Styles)، وكيف ينعكس ذلك على الزواج، والاختيار العاطفي، والاستقرار النفسي، مع الاستناد إلى دراسات علمية ومصادر موثوقة.

أولًا: الأم بوابة أولى للحب والأمان

منذ لحظة الولادة، يعتمد الطفل على أمه بشكل كامل.
فعندما تستجيب لاحتياجاته بسرعة — بالحضن، واللمس، والابتسامة — يتكوّن لديه شعور عميق بالأمان والجدارة بالحب.
أما إذا واجه إهمالًا، أو تذبذبًا في الحنان، فقد ينشأ لديه ارتباط مضطرب يؤثر سلبًا على علاقاته المستقبلية.

يصف عالم النفس جون بولبي (John Bowlby)، مؤسس نظرية التعلق (Attachment Theory)، العلاقة بين الطفل والأم بأنها:

“القاعدة الآمنة التي يبني عليها الإنسان كل علاقاته في حياته.”

بمعنى آخر، طريقة الأم في التعبير عن حبها أو حجبها له، تُبرمج دماغ الطفل على كيف يحب وكيف يُحب.

ثانيًا: نظرية التعلق (Attachment Theory) وأثرها في العلاقات العاطفية

وضع العالمان جون بولبي وماري أينسورث (Mary Ainsworth) الأساس لما يُعرف بـ “أنماط التعلق”، وهي أربعة أنماط رئيسية تنشأ في الطفولة وتستمر إلى مرحلة البلوغ.

1. التعلق الآمن (Secure Attachment)

ينشأ عندما تكون الأم حاضرة ومتجاوبة مع احتياجات الطفل.
يُصبح الطفل لاحقًا شخصًا:

  • واثقًا بنفسه.

  • قادرًا على الحب والالتزام.

  • يشعر بالأمان في العلاقات.
    في الزواج، يميل أصحاب هذا النمط إلى التفاهم والتواصل الصحي والثقة المتبادلة.

2. التعلق القَلِق (Anxious Attachment)

ينشأ عندما تكون الأم متقلبة الاستجابة — أحيانًا حنونة وأحيانًا بعيدة.
يصبح الطفل حساسًا تجاه الحب والخسارة، وفي الكبر:

  • يبحث عن الطمأنينة المستمرة من الشريك.

  • يخاف من الهجر.

  • قد يغار أو يبالغ في التعلق.
    في الزواج، قد يؤدي هذا إلى توتر مستمر وصعوبة في الثقة بالشريك.

3. التعلق المتجنب (Avoidant Attachment)

يظهر عندما تكون الأم باردة أو غير متوفرة عاطفيًا.
يتعلم الطفل الاعتماد على نفسه فقط، وفي الكبر:

  • يهرب من القرب العاطفي.

  • يخشى الإفصاح عن مشاعره.

  • يفضل الاستقلال على الالتزام.
    وفي الزواج، غالبًا ما يظهر هذا في شكل جفاء عاطفي أو انسحاب عند الخلافات.

4. التعلق غير المنظم (Disorganized Attachment)

يحدث غالبًا في البيئات التي يسودها الخوف أو العنف أو الإهمال الشديد.
يكبر الطفل وهو يحب ويخاف في الوقت ذاته، مما يجعله يعيش تناقضًا في علاقاته.
في الزواج، قد يُظهر هذا النمط سلوكيات متقلبة بين القرب والانسحاب، وصعوبة في بناء علاقة مستقرة.

ثالثًا: تأثير علاقة الطفل بأمه على اختياره لشريك الحياة

عندما يكبر الطفل، يبدأ — من دون وعي — في البحث عن الشريك الذي يُشبه علاقته الأولى بالأم، سواء كانت صحية أو مؤذية.

💬 1. “إعادة التمثيل” أو إعادة التجربة (Repetition Compulsion)

يفسر علماء النفس هذه الظاهرة بأن الإنسان يحاول إصلاح جرح طفولته من خلال علاقاته الجديدة.
فمن كانت أمه باردة، قد ينجذب لشريك عاطفي بارد في محاولة غير واعية “لإصلاح الماضي”.

💬 2. الميل نحو المألوف

حتى لو كانت العلاقة بالأم مليئة بالتوتر، العقل ينجذب إلى المألوف.
لذا، من تربى على القلق في الحب، يجد الراحة — paradoxically — في علاقات غير مستقرة.

💬 3. البحث عن الأمان المفقود

من افتقد الحنان في الطفولة، غالبًا ما يبحث عنه في الزواج بشكل مفرط، فيتعلق بالشريك بشدة، وقد يعاني من الإدمان العاطفي أو التعلق المرضي.

رابعًا: الأم والابن — كيف تؤثر العلاقة في زواج الرجل؟

يقول علماء النفس إن علاقة الرجل بأمه هي النموذج الأول لعلاقته بالنساء في حياته.
فإن كانت العلاقة:

  • قائمة على الحنان المتوازن → يصبح الرجل محبًا متفهمًا ومتعاطفًا.

  • قائمة على التدليل المفرط أو السيطرة → يصبح اعتماديًا أو خائفًا من الرفض.

  • قائمة على البرود أو النقد المستمر → يصبح مترددًا في الالتزام أو سريع الانسحاب.

وقد أظهرت دراسة نُشرت في Journal of Social and Personal Relationships (2019) أن الرجال الذين كانت لديهم علاقات آمنة مع أمهاتهم أكثر قدرة على حل النزاعات الزوجية بهدوء، وأقل عرضة للانفصال.

خامسًا: الأم والابنة — كيف تنعكس العلاقة على الزواج؟

العلاقة بين الأم والابنة ليست مجرد حب، بل هي نموذج أنثوي يُشكل مفهوم الابنة عن ذاتها وعن الحب والزواج.

  • إذا رأت في أمها امرأة قوية متصالحة مع نفسها، ستتعلم أن تكون مستقلة وواثقة.

  • وإذا كانت الأم خاضعة أو متوترة عاطفيًا، فقد تنسخ الابنة هذا النمط في زواجها.

تشير دراسة من جامعة كامبريدج إلى أن الفتيات اللواتي يتمتعن بعلاقة دافئة مع أمهاتهن أكثر قدرة على اختيار شركاء داعمين نفسيًا، وأقل عرضة للدخول في علاقات سامة.

سادسًا: الجروح العاطفية من الأم وتأثيرها على الزواج

ليست كل العلاقات الأمومية مثالية، وبعض الجروح التي تتشكل في الطفولة قد تظهر في الزواج لاحقًا في صور مختلفة، مثل:

  1. الخوف من الهجر → بسبب أم غير مستقرة عاطفيًا.

  2. صعوبة التعبير عن المشاعر → بسبب أم قاسية أو ناقدة.

  3. الاعتمادية الزائدة → نتيجة أم مفرطة في الحماية.

  4. رفض الحب أو القرب → بسبب تجربة طفولية مؤلمة أو عنف منزلي.

كل هذه الأنماط تُترجم في الزواج إلى صراعات، وسوء تواصل، وتكرار للألم القديم.

سابعًا: كيف يمكن شفاء آثار العلاقة الأمومية غير الصحية؟

1. الوعي بالأنماط القديمة

الخطوة الأولى هي الاعتراف بأن سلوكياتنا العاطفية ليست عشوائية، بل جذورها تمتد للطفولة.

2. العلاج النفسي

يساعد العلاج المعرفي السلوكي (CBT) أو علاج التعلق (Attachment-based Therapy) على:

  • فهم الجروح العاطفية.

  • تعديل أنماط التعلق.

  • بناء علاقات أكثر وعيًا ونضجًا.

3. العلاقة التعويضية الصحية

الزواج الواعي يمكن أن يكون بيئة للشفاء إذا كان الشريك داعمًا وصبورًا.
فالعلاقات الآمنة تُعيد برمجة الدماغ العاطفي وتقلل من أثر الصدمات القديمة.

4. التحرر من الشعور بالذنب تجاه الأم

الشفاء لا يعني لوم الأم، بل فهم حدودها وإدراك أنها فعلت ما استطاعت ضمن وعيها وظروفها.

ثامنًا: كيف تساعد الأم أبناءها على بناء علاقات زوجية صحية مستقبلًا؟

  1. منح الحب دون شروط وليس مقابل الطاعة.

  2. تشجيع الاستقلال العاطفي منذ الصغر.

  3. التواصل الهادئ والصادق مع الطفل.

  4. الاعتذار عند الخطأ لتعليم الطفل التسامح.

  5. إظهار نموذج زواج صحي أمام الأبناء، لأنهم يتعلمون بالمشاهدة أكثر من التوجيه.

تاسعًا: الأم والحب في ضوء علم الأعصاب

تشير دراسات حديثة من جامعة هارفارد إلى أن التفاعل العاطفي بين الأم والطفل يؤثر فعليًا على تطور دماغه — خصوصًا المناطق المسؤولة عن الثقة، والذاكرة العاطفية، وتنظيم المشاعر.
وهذا يعني أن الارتباط الآمن بالأم يبرمج الجهاز العصبي على التوازن النفسي والعاطفي، مما يزيد احتمالية نجاح العلاقات الزوجية مستقبلاً.

عاشرًا: الجانب الاجتماعي والثقافي

في المجتمعات العربية، للأم مكانة مركزية، وغالبًا تكون العلاقة بها مشحونة بالتوقعات والتدخلات.
وقد يؤدي تعلق الرجل المفرط بأمه إلى ما يُعرف بـ “متلازمة ابن أمه”، مما يخلق صعوبات في الحياة الزوجية إذا لم يكن هناك توازن صحي بين البر والاستقلال.

كما أن نظرة الأم للزواج والعلاقات تنتقل ضمنيًا إلى أبنائها — فإذا كانت ترى الزواج تضحية، فسيرى أبناؤها ذلك أيضًا.

الأم هي أول حب في حياة الإنسان، ومن خلالها يتعلم كيف يحب وكيف يُحب.
إن نوع الارتباط الذي يتشكل في الطفولة ينعكس بعمق على اختيارات الزواج، والاستقرار العاطفي، ونمط التفاعل مع الشريك.

لكن الجميل أن الوعي والمعرفة يمكن أن يحررا الإنسان من تكرار الماضي.
فمن خلال إدراكنا لجذورنا العاطفية، نستطيع أن نبني علاقات أكثر نضجًا وتوازنًا ومحبة.

“الشفاء يبدأ عندما ندرك أن الحب الذي نفتقده في الماضي يمكن أن نمنحه لأنفسنا في الحاضر.”

 المصادر

  1. Bowlby, J. (1988). A Secure Base: Parent-Child Attachment and Healthy Human Development. Basic Books.

  2. Ainsworth, M. D. S. (1989). Patterns of Attachment: A Psychological Study of the Strange Situation.

  3. Harvard Health Publishing (2021). How Childhood Attachment Shapes Adult Relationships.
    https://www.health.harvard.edu

  4. Journal of Social and Personal Relationships (2019). Mother–Child Attachment and Marital Satisfaction in Adulthood.

  5. American Psychological Association (APA). The Lasting Impact of Early Attachment on Adult Relationships.
    https://www.apa.org

  6. University of Cambridge (2020). Maternal Warmth and Daughters’ Relationship Choices.




المقال السابق
المقال التالي

كُتب بواسطة:

0 Comments: